الاستراتيجية المينائية سلاح المغرب الاقتصادي الجديد

بدر الزاهر الأزرق

بدر الزاهر الأزرق : أستاذ باحث في قانون الاعمال

انصرفت عقود طويلة والدول العربية تبحث عن رسم ملامح هويةٍ اقتصاديةٍ تُمكِّنهُا من التًّموقُع بشكل جيد في المشهد الاقتصادي العالمي، وإن كان بعضها قد نجح بما يملكه من ثروات باطنية في التحقيق الجزئي لهذه الغاية، فإن عدداً آخر ضًنّت عليه الطبيعة بهذه الثروات فاضطرتها إلى البحث عن بدائل تُسهم في تقليص الفجوة الاقتصادية وتمنحهم فرصاً للنمو ومواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية.

وهكذا، قاد هذا السعي بعض الدول العربية إلى محاولة صياغة أنموذج اقتصادي جديد، قائم على تًمثُل نوع آخر من الثروات يرتكز على استغلالٍ وتوظيفٍ أمْثل للموقع الجغرافي. فمعظم الدول العربية تٌطل على أهم الطُّرق التجارية البحرية، كما أنها تُشرف على أهم المضائق والقنوات البحرية. هذه الأفضلية الجغرافية دفعت بعدد منها إلى التفكير في صياغة أنموذج اقتصادي يستند إلى هذه المقومات الجغرافية عبر الاستثمار في تقوية البنية التحتية المينائية وتطويرها، وتعزيز امكانياتها على مستوى تقديم الخدمات اللوجيستيكة جودةً وتكلُفةً، وهو التوجه الذي سارت عليه دول كالإمارات العربية المتحدة وجمهورية مصر العربية قبل أن تلتحق بهم بقية الدول العربية التي تحاول تقفي أثر النجاح.

وفي هذا السياق، نورد أنموذج الاستراتيجية المينائية المغربية التي كان لها دور كبير في تسريع تحول البنية الاقتصادية لهذا البلد، من بنية ترتهن لثلاث قطاعات أساسية هي الفلاحة والخدمات والصناعات الاستخراجية، إلى بنية منفتحة على قطاعات صناعية متطورة كصناعة السيارات والطائرات وتكنولوجيا الطاقات المتجددة؛ هذا التحول الذي ارتأت المملكة إحداثه عبر البوابة المينائية كان له أثر كبير في الارتقاء بالتصنيع في ظرف وجيز.

  1. الموانئ المغربية من الأفول إلى الانبعاث

تعد المملكة المغربية من البلدان الشبه معزولة جغرافيا بالنظر الى إحاطة البحر بها من جهتين شمالا وغربا، وحدود برية مغلقة على امتداد الشرق ومنفذ بري وحيد باتجاه الجنوب، وهو الأمر الذي فرض منذ عقود خلت التفكير في حلول وبدائل فعالة ومستدامة من أجل تجاوز هذا الوضع المعقد الذي فرضته الجغرافيا والخلافات السياسية، حيث طرحت عدة بدائل وحلول بعضها مرتبط بتطوير القطاع المينائي.

بُعيد استقلال المملكة المغربية، عملت الحكومة على تطوير أنظمة تدبير واستغلال الموانئ عبر بوابة التأميم والمَغْرَبة، وهو ما كان له نتائج سلبية على المدى القصير والمتوسط نتيجة تسريح عدد كبير من الأطر الاجنبية وفقدان رؤوس أموال معتبرة، وما يعنيه ذلك من فقدان خبرات ومعارف تقنية وإمكانيات مادية كان من شأنها تطوير هذا القطاع الحيوي بالنسبة للاقتصاد المغربي.

التدهور الذي عرفته الخدمات المينائية بُعيد الاستقلال كانت له تبعات سلبية على الاقتصاد الذي شهد أزمة خانقة بداية الثمانينيات دفعت المغرب إلى طلب المساعدة من بعض المؤسسات الدولية التي ربطت تقديمها بسنِّ عددٍ من الإصلاحات الاقتصادية بُغية تخفيف تدخل الدولة في المشهد الاقتصادي وترسيخ المقاربة الليبيرالية القائمة على التحرير والخصصة، مقابل حصر تدخلها في التخطيط والتنظيم والمراقبة. هذه التوجيهات كان لها أثر مباشر على القطاع المينائي الذي دخل في مرحلة إعادة هيكلة وتحرير تدريجي ابتداء من سنة 1984 انتهت إلى إقرار نظام جديد لتدبير واستغلال الموانئ بالمغرب ابتداء من سنة 2002.

  1. طنجة المتوسط .. روح التحول المينائي ونبراسه

في مستهل الألفية الثالثة، قرر المغرب دخول غمار تجربة اقتصادية جديدة عبر تأسيس مركب مينائي يتمتع بالاستقلالية في التدبير ويتم استغلاله من قبل مستثمرين خواص، ذو نظام ضريبي محفز ومرن مكن من استقطاب عدد كبير من المستثمرين الاجانب استقروا في المناطق الحرة، هذه المقاربة الجديدة القائمة على الشراكة في التدبير والاستغلال بين القطاعين العام والخاص انعكست ايجاباً على مردودية هذا المركب وارتقت به إلى مصافي الموانئ الدولية الكبرى، وحفزت السلطات الوصية على استنساخ نفس التجربة عبر  الشروع في إنشاء ميناء الناضور شرق المتوسط وميناء الداخلة الأطلسي؛ هذه التوجهات واكبتها إصلاحات قانونية شملت إصدار قانون 15.02 الذي حرر الخدمات المينائية بشكل كلي وأسهم في تجويدها، كما عزز قدرة هذا القطاع على استقطاب الاستثمارات الأجنبية وتأسيس لصناعات جلها موجه نحو التصدير.

إنه لا يمكن اليوم الحديث عن الاقتصاد المغربي دون التوقف ملياً عند تجربته المينائية التي غيرت في ظرف عقدين من الزمن من مرتكزاته وروحه، ومكنته من صياغة هوية اقتصادية جديدة، تلمسنا بعضاً من ملامحها خلال عرض مضامين الميثاق الجديد للاستثمار سنة 2022، هذه التجربة من شأنها أن تكون تجربة ملهمة لعدد من الدول العربية التي تتقاسم نفس الخصائص الاقتصادية والجغرافية مع المملكة، وهو الامر الذي قد يكون له أثر إيجابي في تعزيز التكامل الاقتصادي وتسريعه، كما قد يُسهم في تذويب بعض الخلافات السياسية أمام حجم المنافع الاقتصادية التي قد يجلبها التقارب والتكامل.

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)