لا يتطلب الأمر أكثر من نقرة زر، حتى تندلق “المحتويات” في وجهك دفعة واحدة، كالذي فتح كوة آلة غسيل و هي في ذروة دورانها، لتلقي في وجهه غسيلها القذر.
تطبيقات التواصل الاجتماعي في أيامنا هذه كلما زاد انتشارها كلما كبر كم غسيلها القذر، حتى أن صداها يتردد اليوم تحت قبة البرلمان.. ونواب الأمة أفردوا وقتهم الثمين لكي يناقشوا تطبيق التيك توك، هذا الغازي الجديد الذي تسلل إلى هواتفنا وملئ الدنيا وشغل الناس.
وليس مستغربا من نواب الأمة و مشرعيها أن يناقشوا قادما جديدا وينظروا في أمره وما هم فاعلون به، لكن ما أجده غريبا هو المنحى الذي سار فيه النقاش.. الحظر، المنع ومنطق “وكم من حاجة قضيناها بتركها”
قبل أن أسترسل معكم في الحديث، دعوني أحكي لكم ملامح من واقعة تاريخية قديمة، ففي تاريخ المغرب، حينما كان علماء جامع القرويين هم أهل الحل والعقد في كل شاردة وواردة في البلاد، قرر السلطان أن يجلب القطار إلى المملكة، كي يستفيد منه الرعايا، ويصبح لهم ركبا جديدا سريعا وضخما، فاستشار العلماء أن يفتوه في الأمر قبل أن يقوم بجلبه، فكان آنذاك أن أطلقوا على القطار اسم “بابور البر”، وبعد أخذ و رد وتقليب للآراء والنصوص، خلص اجتهاد العلماء إلى أن دخول “بابور البر” إلى بلاد المسلمين حرام.
العلماء حينها أفتوا بما يعرفون، ولهم أجر اجتهادهم، لكن التاريخ أثبت أنه كان اجتهادا خطئ، وأنا أذكره في نازلة النقاش حول حضر “التيك توك” لأنني أعتبر اليوم شبيها بالبارحة، فهذا التطبيق هو “بابور البر” الجديد، والسعي إلى حظره هو تكرار لاجتهاد خاطئ.
لا أقول هذا دفاعا عن التطبيق، ولكن المبدئ أنه لا يمكننا حظر استخدام السكاكين فقط لأن هناك بعض المجرمين يستعملونها لقطع الطرق، وأنا أعرف مسبقا أن “التيك توك” في أيادي بعض المرضى ضعاف النفوس، هو مجرد سكين وأداة جريمة، وهذا يتطلب تصحيح الأمر من أصله، وليس العكس.
لا أريد أن أفتح القوس للحديث عن حظر هذا التطبيق الصيني في الأجهزة الحكومية في الولايات المتحدة الأمريكية خوفا من التجسس، ولا الحديث عن مشاريع حظره في أوروبا، ولا عن إزعاجه للغرب بسبب سماحه بالمحتوى المناصر لفلسطين.. كل تلك تفرعات يمكن أن يجرنا الحديث إليها، لكن لا يهم، دعونا نتحدث فقط عن هذه البلد التي نحبها، وعن مكمن الخلل.
فلنطرح معا هذه الأسئلة.. هل حينما فتحنا المجال أمام العالم كي يدخل إلينا من نوافذ الانترنت، كنا جاهزين؟؟
هل ربينا النشئ على حسن استعماله عبر المدرسة ودار الشباب والحزب والإعلانات في الشوارع؟
هل أنتجنا برامج توعوية للأسرة لتوعية الآباء بأهمية الرقابة الأبوية على أجهزة القاصرين؟
هل شجعنا صناع المحتويات الهادفة وجعلنا منهم جيشا يحمي القيم والوطنية وينشر الترفيه بأساليب محترمة؟
ولماذا لا نسمع تحت قبة البرلمان مبادرات من هذا القبيل؟
الأجوبة عن هذه الأسئلة قد تختلف، وقد تثير المزيد من النقاش حول الأمر، ولكن على الأقل، ستكون قد أثارت النقاش الحقيقي الذي يجب أن يثار، أما المنع والحجب والحظر، فهو أقصر الطرق وأكسلها، وليس فيه من الحل شيء
التيك توك و غيره، هو مثل شوارع وأزقة المدن، فيها كل شيء، وكلما اندسست في أزقتها المظلمة، كلما رأيت العجب العجاب، ولا يكون عليك أن تهدم الزقاق المظلم كي تنقذ المدينة، بل سيكون عليك وضع عمود نور، وتنظيف الرصيف، ووضع ورد على الجنبات.
أخيرا دعوني أشارك معكم مثلا روسيا أحبه يقول “إذا أعطيت الأحمق خنجرا، صرت قاتلا”.