مقدمة
مدينة سلا، من المدن المغربية العريقة، وقطعة أساسية في فسيفساء الحضارة المغربية، بالنظر إلى عراقة تاريخها وعظيم مساهمة أبناءها في مسار التاريخ المغربي في جميع جوانبه العلمية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية. ويشهد على ذلك غنى الأحداث التاريخية التي كانت المدينة مسرحا لها، وغنى وتنوع المآثر العمرانية التي تشهد على ذلك التاريخ، وتنوع وتعدد مساهمات أبناء سلا في الصرح العلمي والنبوغ المغربي في مختلف ميادين العلم والثقافة والفكر. وإذا كانت شهرة المدينة في الفترة المعاصرة قد انحجبت وراء شهرة مدينة الرباط المجاورة بعد اتخاذ هذه الأخيرة عاصمة للبلد، بل ويخيل للمرء أنها لا تعدو أن تكون ضاحية تابعة للعاصمة، فإن الوقائع التاريخية تثبت أن المدينة من أعرق وأقدم المدن المغربية وكانت شهرتها تغطي على الرباط طيلة قرون عدة، بل وفي فترات تاريخية عدة كان المؤرخون خصوصا الأوربيون يطلقون اسم سلا على مجموع العمران المتكون على ضفتي نهر أبي رقراق عند مصبه في البحر، وإذا أرادوا زيادة بيان أو تفرقة قالوا لك سلا القديمة على الضفة الشمالية للنهر (أي مدينة سلا)، وسلا الجديدة على الضفة الجنوبية، وهي مدينة الرباط أو رباط الفتح. فقد كانوا يعتبرون العدوتين مدينة واحدة، وان الرباط إنما هي ضاحية أو امتداد لمدينة سلا السابقة الوجود عن مدينة الرباط. وقد لعب موقعها على ساحل المحيط الأطلسي وعلى ضفاف مصب نهر أبي رقراق دورا محوريا في جعلها تلعب أدوار مهمة في مسار الأحداث التاريخية في المغرب منذ أقدم العصور؛ بداء من فترات الإستيطان الفنيقي والروماني إلى العصر العلوي مرورا ببرغواطة وبني يفرن والأدارسة والمرابطين والموحدين والمرينيين والسعديين. فمدينة سلا تتوسط الشريط الساحلي الرباط بين شمال المغرب وجنوبه في موقع يتحكم في الطرق الآمنة الرابطة بين مراكش وفاس، الأمر الذي جعلها مرحلة متميزة في طريق المسافرين العاديين أو مواكب السلطان التي كان يتعذر عليها أحيانا المرور مباشرة من فاس إلى مراكش عبر تادلة والمناطق المحاذية أو العابر لجبال الأطلس المتوسط.
الأصول والتأسيس
رغم قدم الاستقرار البشري على ضفتي ومصب نهر أبي رقراق، خاصة مع الاستقرار الفينيقي والروماني كما هو الشأن مع شالة في الضفة اليسرى للنهر، فإن العمران الأصلي لمدينة سلا الحالية قد انطلق في القرن الخامس الهجري (11م) في موضع مشرف على البحر والنهر، وذلك على ذروة تل رملي صلب. وقد كانت أسرة بنو عشرة العريقة والثرية أول من بنى نواة المدينة عندما شيدوا قصرا في موقع مرتفع محاد لموقع المسجد الأعظم في “حومة الطالعة”، لذا، حملت المدينة في بعض النصوص التاريخية تسمية “مدينة بني العشر”. ورغم اندثار هذه النواة الأولى فإن البناء استمر في الإمتداد في اتجاه البليدة حيث كان أول المستقرين فيها الوافدون من سوس الذين شيدوا حومة الطالعة المجاورة للمسجد الأعظم في العهد الموحدي، ثم امتد العمران بعد ذلك نحو الأماكن المستوية التي توجد فيها الأسواق الحالية، متجها نحو جامع الشهباء الموجود حاليا في حي “سيد التركي”.
انتظم العمران القديم داخل أسوار تمتد على شكل مستطيل ممتد من البحر إلى الداخل، جانبان منه يحاذيان البحر من جهة الغرب ووادي أبي رقرار من جهة الجنوب، وقد منح ذلك المدينة تصميما هندسيا يتقاطع داخله محوران أساسيان، يربط الأول منهما الباب الجديد” ب”باب سبتة”، ويصل الثاني بين الأحياء الموجودة في “راس العقبة” و”باب الخميس” أو “باب فاس” الموجود شرق المدينة. وقد ذكر ابن خلكان أن سلا جديرة بالمقارنة بالإسكندرية لما تتسم به من إتقان في البناء، وحسن التقسيم.
سلا عبر التاريخ
من بني عشرة إلى بني يفرن:
بالإضافة، إلى أسرة بنو عشرة ومهاجري شالة، ومن انضاف إليهم من المجاهدين والمرابطين برباطها حول شالة البرغواطية، فقد ساهم بنو يفرن الزناتيون الذين ورثوا ملك الأدارسة في تأسيس مدينة سلا الحالية، بزعامة موسى بن أبي العافية، وقد اتخذوا من سلا عاصمة إمارتهم التي امتد نفوذها من فاس إلى تادلا وأغمات عبر دير الأطلس الكبير، واتخذوها أيضا منطلقا وحصنا لمحاربة البرغواطيين بتامسنا، حتى قيل: إنه في القرن الرابع للهجرة (10م)، كان يجتمع فيها نحو مائة ألف من المرابطين المجاهدين في سبيل الله. وفي عهد بني ينفرن تزايد عمران المدينة وتواصل بنيانها، وذكر في التاريخ إسمها.
سلا في عهد الإمبراطوريات المغربية:
واستمرت المدينة في التوسع والإزدهار مع مجيء الدولة المرابطية (1061م-1146م) وقضاءها على بني يفرن الزنايين في المدينة، حيث توسعت المدينة خارج أسوارها منذ هذا العهد، فقد أنشأ يوسف بن تاشفين مسجدا جديدا للجمعة وهو جامع الشهباء، بعيدا عن نواة المدينة، في اتجاه الشرق. وفي عهد الدولة الموحدية (1130م-1269م)، ورغم المقاومة المؤقتة التي جابهت بها المدينة الدولة الوليدة، اتخذ الخليفة الموحدي عبد المومن بن علي من سلا دار مقام له بعد مراكش لأسابيع وشهور من أجل استقبال وفود الأندلس والإشراف على أطراف الدولة الموحدية، وتجييش الجيوش وتعبئة الأساطيل لتمهيد باقي بلاد المغارب. وقد توفي عبد المومن في سلا 558ه/1163م بعد أن اجتمع له فيها 480000 فارس وراجل، استعدادا للعبور بهم إلى الأندلس لوقف الزحف المسيحي. كما أن المدينة عرفت خلال هذه الفترة اتساعا عمرانيا مهما وازدهارا اقتصاديا كبيرا سمح لها بالتحول إلى مقصد للتجار من كل الآفاق خاصة من الأندلس، ومن مختلف مناطق شمال افريقيا، وخاصة بعد اعتلاء يعقوب المنصور الموحدي للحكم، حيث بويع في المدينة بعد رجوعه من الأندلس، وشيد جامعها الأعظم على أنقاض جامع بني عشرة إثر انتصاره في معركة الأرك. وخلال نفس الفترة أسس في ضفتها الجنوبية مدينة رباط الفتح (الرباط الحالية). وقد أصبحت بذلك مدينة سلا أم مدن المنطقة ينسب إليها الرباط (رباط سلا أو سلا الجديدة) والقصبة (قصبة سلا) وشالة (شالة سلا) وتسمى مجتمعة “مدن سلا” سواء في كتب التاريخ والوثائق الإسلامية والأوربية إلى القرن الثامن عشر (12هجري). لقد تحولت مدينة سلا في العهد الموحدي –إلى جانب رباط الفتح- إلى عاصمة ثانية للدولة، بعد مراكش، وإقامة صفية للسلاطين، بل ومثلت مركزا للسلطة أكثر مما كانت عليه العاصمة مراكش نفسها، خاصة في أواخر العهد الموحدي.
سلا المرينية.. الإزدهار الروحي والعلمي:
استمرت مدينة سلا الحديثة في النمو في عهد الدولة المرينية (1216م-1465م)، بالرغم من الأزمات المتعددة التي كانت ضحية لها، ويبقى أهم طابعين اكتسبتهما المدينة خلال تلك الفترة، هما: انتشار تيار الزهد والصلاح في المدينة، وقد بدأ ذلك منذ القرن الثاني عشر الميلادي وتعمق في هذا العهد، فأصبحت المدينة مشهورة داخل المغرب وخارجه كمكان مفضل للخلوة والعبادة والنسك، وانتقل إليها عدد من الشيوخ العارفين والمريدين السالكين، وعلى رأسهم: ابن العباس أو سيدي بلعباس (توفي 1145م)، وأبو موسى الدكالي، المعروف ب”سيدي موسى”، والعالم والصالح سيدي بنعاشر: أحمد بن محمد ابن عاشر الشميني الأندلسي الطبيب”، الولي الشهير، دفين سلا. لقد تحلت المدينة في هذا العهد بالحلية الصوفية، وأصبحت مدينة علمية، يأوي إليها الزهاد، ويقصدها الصلحاء، ولهذا قصدها الوزير لسان الدين ابن الخطيب في عهد نكبته فاتخذها دارا وملجأ والتمس بركة رجالها وتنسك بزاوية نساكها.
أما الظاهرة الثانية فتتمثل في تقدم الصناعات والمعارف بفضل المؤسسات التي أنشأها ملوك بني مرين في المدينة. فمباشرة بعد استرجاع المدين من يد الإسبان الذين هاجموها يوم عيد الفطر من سنة 1260م، بدأ المرينيون في بناء السور المحادي للوادي (السور الجنوبي)، ثم توالت أعمال بناء عدد من المؤسسات: ك”دار الصناعة” سنة 1261م/659ه بالزاوية الجنوبية الشرعية للمدينة (الحي اليهودي أو الملاح) لصناعة السفن الجهادية والتجارية، ومدرسة الطالعة أو المدرسة العظمى سنة 1333م/733ه، والمدرسة الطبية أو المدرسة البوعنانية (المارستان) سنة 1356م/757ه.
ورغم الإزدهار الذي طبع سلا في العهد المريني، فإن المدينة عانت في أواخر هذه الدولة، وفي عهد الدولة الوطاسية من الإهمال والتدهور، وتراجعت تجارتها وأسواقها، وغزتها مظاهر البداوة والتهور العمراني وتضايقت الحارات والدور. وترافق ذلك مع توالي الأوبئة والجفاف، كذا انعدام الأمن والسلطة وكثرة الفتن، وانقطعت الطرق، فصارت المدينة بعد ازدهارها، قرية أو في حكمها.
سلا في العهدين السعدي والعلوي:
تميزت العصر الحديث لمدينة سلا بالتفتح على الخارج والتعامل مع أوربا وبلاد السودان. فقد استوطنت المدينة خلال عهد الشرفاء السعديين والعلويين جالية أندلسية بعد قرار الطرد النهائي من بلادهم، فدخلت معها اللغة الإسبانية فأصبح السلاويون يتحدثونها في البيوت والأسواق إلى جانب اللغة العربية، كما ساهمت هذه الجالية في تطوير وسائل الري في الحقول والبساتين وأدخلوا شجر التوت وتربية دود القز، فقامت صناعة الحرير في سلا إلى جانب صناعاتها القديمة في القطن والكتان والصوف. وخلال نفس العصر؛ وفي الفترة الانتقالية بين الدولة السعدية (الزيدانية) والعلوية شهدت سلا بروز إمارة المجاهد محمد العياشي السلاوي، والتي شملت منطقة نفوذه مدينة فاس ومكناس وتطوان وسائر شمال المغرب من وادي أم الربيع إلى الثغور المحتلة في الشمال، فلعب دورا هاما في إيقاف الزحف المسيحي، وحاصر المحتلين (الإيبيرييون) في مازاغان (الجديدة) والمهدية والعرائش وطنجة، كما أشرف على تكوين وتسيير أسطول الجهاد البحري الذي كان يسميه الأوربيون أسطول “قراصنة سلا”، وهو الأسطول الذي ورثه وطوره الدلائيون وورثوا معه سلا والرباط (سلا الجديدة) والقصبة تحت نفوذ القائد سعيد أجنوي، ثم ولى عليها محمد الحاج الدلائي ولده أبا محمد عبد الله، واتخذ من القصبة مقرا له، وصار يسمى من ذلك الحين “أمير سلا”.
وبعد القضاء على الخَضِر غيلان، استولى المولى الرشيد بن الشريف العلوي على سلا، فقام بتأميم أمر القرصنة، وعلى نهجه صار المولى إسماعيل، وهكذا دخلت مدينة سلا عهد جديدا خاصة ما تعلق منها بأعمال القرصنة، فأصبحت على قدر كبير من القوة والجرأة والتردد على السواحل الأوروبية والتجول في خلجانها وجزرها، واختطاف سكان المدن والقرى الساحلية فامتلأت المدينة بالأسرى.
سلا منارة العلم والثقافة
تكاثر طلاب العلوم، والعلماء في سلا بسبب المدارس والزوايا التي تم تأسيسها في المدينة وكثرة الأحباس التي أوقفت على المدارس، كما أن بعض التخصصات كانت حكرا على أهل سلا دون سواهم، فقد كان أعيان فاس وغيرها يرحلون إلى سلا لأخذ الطب والتصوف من أساتذتها وشيوخها. وقد اشتهر في مجال الطب في المدينة مثلا الطبيب عمر ابن غياث السلاوي (سيدي مغيث)، والطبيب أبو الفضل العجلاني السلاوي، والطبيب محمد القوري.
وقد لعبت مدينة سلا خلال الفترة المعاصرة أدورا ثقافية إصلاحية عديدة، حيث كان لرجالات سلا دور في إسداء النصح للمخزن ومساعدته على مواجهة الضغوط والأطماع الخارجية خلال النصف الثاني من القرن 19م، من أمثال: قاضي القضاة عبد الله ابن خضراء مستشار الدولة وأمين مصاريفها، وعلي زنيبر صاحب مشروع الدستور المعروف. كما أن سلا كانت سباقة ورائدة في ميدان الصحافة والنشر، حيث صدر فيها خلال الثلاثينيات “جريدة المغرب”؛ أول جريدة يومية حرة بالمغرب، ودورية ثقافية ملحقة بها وهي “الثقافة المغربية” لسعيد حجي، وجريدتان أسوعيتان هما: “الوداد” لمحمد اشماعو، و”التقدم” لمحمد بن حساين النجار. وفي “مطبعة المغرب” التي أسسها سعيد حجي في الثلاثينيات نشرت عدة كتب في تاريخ المغرب وحضارته، اللغة العربية وآدابها.
خاتمة
إن أهم ما يلفت النظر في مدينة سلا بعد استقلال البلاد، اتساع المدينة بشكل كبير، وخاصة خارج المدينة بحيث أصبحت سلا داخل الأسوار لا تمثل إلا جزء يسيرا من المدينة الكبرى، وقد جاء ذلك بفضل تضخم ساكنة المدينة بتوافد أفواج المهاجرين من المدن والقرى وحتى الموظفين العاملين بالإدارات العمومية بمدينة الرباط، حيث تحولت مع توالي السنوات إلى مدينة مليونية تستضيف بين أزقتها ودروبها عدد كبيرا من الساكنة المتنوعة الطبقات الاجتماعية والمشارب الثقافية.