سنة ألفين وتسعة عشر، جلس الفنان الأمريكي الساخر “جون ستيوارت” في غرفة بالكونغرس الأمريكي ليدلي بشهادته بخصوص المستجيبين الأوائل من رجال الشرطة والوقاية المدنية لهجوم الحادي عشر سبتمبر.
الرجل الذي عهده الأمريكيون في برنامجه الأسبوعي ساخرا من السياسة والسياسيين، بدا في تلك الجلسة غاضبا أحمر الوجه، ممتعضا من التهميش الذي تعرض له رجال ونساء ضحوا من أجل إنقاذ أرواح الناس، وتركوا فيما بعد لحال سبيلهم.
الأمر على مأساويته، لا يهمني هنا من حيث الموضوع، ولكن المثير، هو كيف لفنان كوميدي، أن يتمكن من الجلوس أمام كبار المشرعين في الولايات المتحدة، ليلقنهم دروسا في الوطنية، ويذكرهم بواجباتهم، ويقترح عليهم حلولا عملية للمشكلة؟
في حقيقة الأمر، هذه الممارسة ليست غريبة عن الحياة السياسية في أمريكا، يكفي أن تدخل منصة اليوتيوب وتضع في خانة البحث العبارة التالية: “comedian testimony at the congress” لتفاجئ بالعديد من الأسماء المعروفة في الساحة الفنية تتعاقب على منصة الكونغرس، لتدلي برأيها في قوانين وتشريعات، ويتم الاستماع إليها بعناية.
الأمر لا يتوقف على الكوميديين فقط حين يتعلق الأمر بالشهادات أمام الكونغرس، لكن هؤلاء، لديهم شعبية كبيرة في هذا المجال، لأن المشرع الأمريكي يعي مدى دقة الملاحظة التي يتمتع بها الفنان الكوميدي في تحليل الظواهر ومراقبة التفاصيل الصغيرة واستخراج المواقف الساخرة منها.
جال كل هذا بخاطري وأنا أشاهد حوارا أمتعني بين الفنان “حسن الفذ” والإعلامي “رشيد الإدريسي”.. الحوار حاول الخروج عن نمطية الحوارات التي تملأ فضائنا الإعلامي، والذهاب بعيدا في تحليل المشهد الفني والتعاطي الإعلامي معه، بشكل سمح للفنان أن يشرح وجهة نظره إزاء العديد من الأمور، وتبرير اختياراته الفنية، وتقريب المشاهد من مفاهيم فنية دقيقة، ومن كواليس الصناعة الدرامية.
الجزء الذي أثار انتباهي أكثر واستوقفني في هذا الحوار، هو حينما تناول الصحافة في تعاطيها مع الفنان..
منذ زمن بعيد، والفنان “حسن الفذ” يبعث عبر أعماله الفنية رسائل مفادها أن شيئا ما في عالم الصحافة ليس بخير، ولعل أبرزها بعض المواقف في سلسلة “الطوندونس” التي قلد فيها الإعلام الجديد بشكل كاريكاتوري لاذع، قبل أن يعود في رمضان السنة الجارية 2022 ويفتح الجرح من جديد، في حلقة من سلسلته “تي را تي” قدم فيها الصحافة الفضائحية وبحثها عن “البوز”
لكنه بعد كل تلك الرسائل المشفرة والكاريكاتورية، كأنما جاء للحوار مع الإعلامي “رشيد الإدريسي” ليقولها بالمباشر ودون غلاف ساخر أو درامي، ويبين -من وجهة نظره- ما هي مشكلة الصحافة اليوم حين يتعلق الأمر بتعاطيها مع الفنان.
“أنا قليل الظهور لأن المجال الإعلامي تبدل في المغرب” هكذا ابتدئ حسن الفذ الكلام جوابا عن جواب الصحفي عن قلة ظهوره على وسائل الإعلام، وجهه كان يحمل الكثير من الجدية، وصوته يكاد يفشي بعض غضبه من المشهد.
يزيد من توضيح هذا حينما يقولها بصراحة “عندي شعور بالخذلان” قبل أن يعقبها بأن الإعلام والمجتمع دخلا في تفاعل سلبي لم يسمح لهما بتطوير بعضهما، حينما دخل الإعلام في منطق العرض والطلب، وهكذا ذواليك، حتى أضحى “الخط التحريري العام فضائحي”
كلام الفنان “حسن الفذ” صريح لحد أنه جارح، لكنه في مجمله صحيح، هناك شيء ما ليس بخير في عالم الصحافة عموما، وفي الإعلام الفني خصوصا.
أذكر حين بداية مشواري في الإعلام أواخر تسعينيات القرن الماضي، أن الإعلام الفني كان يمارس من متخصصين، متابعين جيدين للحياة الفنية، وكانت الملاحق الفنية والصفحات الأخيرة تقدم محتويات جيدة في مجالها، في احترام للتخصص، لكن هذه المساحة تضيق اليوم، وبالتالي تعكس صورا ليست بالضرورة حقيقية عن الفن وأهله، من قبيل نقل الصراعات الشخصية بين الفنانين، والتركيز غير المفهوم أحيانا على مبالغ الأعمال الفنية، والبحث عن الفضائح، دون التدقيق في القيمة الفنية للأعمال، ومناقشة نواقصها دراميا ومدى احترامها للذوق أو ملائمتها للجمهور أو غيره من زوايا المعالجة الكثيرة.
كنت دائما أتسائل حينما تقوم بعض وسائل الإعلام بنشر تسجيلات لفنان يبكي الحاجة، عن الغاية من مثل هذه المنشورات؟
أليس من الأجدر فتح النقاش حينها عن وضعية الفنان، وحقوق التأليف والكثير من الجوانب المرتبطة بحفظ كرامته، عوض نشر غسيله القذر في الفضاء العام؟
أجزم أن الكثير من التغطيات والمتابعات والحوارات ذات الطابع الفني، لا تخدم رسالة الفن بقدر ما تبخس دور الفنان، وتعيد تدوير صورته النمطية في المجتمع لتؤكدها، بعيدا عن حقيقة أن الفن إصلاح وتهذيب للذوق العام، يجب التعاطي معه على هذا الأساس ومحاسبته عليه.
أجل، الفن في المغرب يعاني كذلك من الأعطاب، لكن إصلاحها يمر عبر إعلام بديل، يعيد شوكة الميزان إلى المنتصف، ويرى الفن بعين مهنية، بعيدا عن صحافة “المحاكمات الشعبية” كما وصفها صاحب شخصية “كبور” وبعيدا عن السعي وراء الفضيحة.